Posts Tagged ‘التحرير’

تحرير ..ثورة.. عدالة

أوت 18, 2011

في تلخيص لأفكار الفيلسوف “جان جاك روسو” في نظرية بناء الاشتراكية في المجتمع الحديث:
“الشعب هو وحده الحاكم , فهو مصدر كل سلطة وقيادة..” , “تقوم نظرية العقد الاجتماعي على تنازل جميع الأطراف بما فيها الحاكم عن الحقوق للصالح العام, فالحاكم خادم للجماعة لايمكن أن يتمتع بفائض من الصلاحيات” , “يحق للجماعة المحكومة عزل الحاكم في حال استبداده وتجاوزه لصلاحياته…”
فيما يحاول جميع الحكام اليوم التمسك بشرعيتهم قدر المستطاع وخاصة منهم الحكام العرب اللذين يفترض أنهم وصلوا جميعاً إلى السلطة انتخاباً أو استناداً إلى ثورات قامj لتحقيق مبادىء الاشتراكية والديموقراطية والعدالة الاجتماعية قبل أن تأخذهم سلطة الكراسي إلى إبادة جماعتهم المحكومة استناداً إلى مبادىء جديدة وضعوها بأنفسهم ك : “أحكمكم أو أقتلكم” تمثل جميع أفكار روسو السابقة ,بالتزامن مع الوضع العربي والعالمي الثوري الحالي, مدى إخفاق الحكام حول العالم في الفهم الصحيح للاشتراكية..!!
****

اليوم , وفي هذه الفترة بين محاكمات _مؤجلة وأخرى موعودة_ للمصري السابق حسني مبارك والمتدة كأنها البرزخ بين الحياة والموت, وفي ظل المناوشات والتعليقات والقيل والقال, ومحاولة البعض استجداء العطف والرحمة “بالسابق” وخاصة بعد ظهوره المثير للشفقة في قاعة المحكمة.. استوقفني كثيراً سؤال , أو لربما اقتراح البعض: “ظهور حسني مبارك بهذي الصورة اليوم ألا يكفي الشعب المصري…؟”

أذكر منذ بضعة شهور , وفي فترة اشتعال التحرير _قبل تنحي سيادة الرئيس_ أذكر كيف, كانت الصحف اليومية تبدأ الصفحة الأولى بصور شهداء التحرير, يوماً بعد يوم, عشرات الصور , ومن ثم مئات. جميعها بدت واحدة:شباب صغار في عشرينهم, في ربيع حياتهم . صور لهم مبتسمين , بكامل ألقهم. شباب بأحلام وطموحات ضاقت بها سماء مصر _على وسعها_ فكانت أصواتهم التي هدرت في التحرير ثورةً تعيد خلق “أم الدنيا” كما حلموا بها , وكما أدركوا أنها لطالما كانت.
ومع ذلك , كان الأمر مايزال بالنسبة لي حالةً عامة , أو عنواناً عريضاً في جريدة , والشهداء جميعهم لم يكونوا سوى أرقام وصور مجهولة , إلى أن رأيت صورة “سالي زهران “.
لم أدر لما استوقفتني الصورة أكثر من غيرها , لربما كانت غريزة طبيعية أو تعاطفاً انثوياً للصورة الوحيدة لفتاة في الصفحة والطريقة التي توسطت فيها الصور الباقية باسمة بذاك الشكل..
حينها فقط أمكنني رؤية ما خارج الإطار . لم تكن “سالي زهران” فقط هناك. امتدت الصورة لتشمل عائلةً مقهورة , أماً مكسورة القلب , أباً يتعايش مع فاجعة , وأختاً لا تستطيع التكيف مع السرير الخالي..
في الصورة تبدت مئات العائلات موزعةً في أرجاء مصر, بالألم ذاته والحرقة ذاتها. في الصورة تبدت آلاف الأحلام والطموحات لصبية استشهدت في أوائل عشرينها. فتاة لربما لم تكن في ظروف أخرى مستعدةً لمواجهة ارهاق الوقوف تحت أشعة الشمس الحارة , لكنها في التحرير وقفت مواجهةً رصاص البنادق. وأحاول عبثاً أن أتخيل نفسي مكانها في آخر ساعاتها.. أكانت على أي حال تتوقع أن تكون تلك آخر ساعات حياتها. .؟ أكانت تتوقع أن تنتهي مظاهرة سلمية أو جمهرة في إحدى الساحات بإطلاق الرصاص الحي..!
كيف يستحيل الانسان العادي المهمل المهمش في لحظة واحدة إلى بطل ثوري , كيف يمكن لبضعة أصوات صارخة , لبضعة شبان متحمسين أن تحيل _وخلال دقائق_ جميع المبادىء والمصطلحات النظرية التي لقنوها خلال حياتهم , واقعاً عملياً ملموساً . أي قوة هي التي بداخل كل منا, أي قوة تلك التي تتجسد بنا , أو بالأحرى نتجسد بها..!
وفي تلك الأثناء.. وفيما مبارك في قمة قوته وجبروته وبعدها بشهور , فيما هو في حضيض ضعفه وذله , هل كان يعلم بوجود “سالي زهران”؟
هل كان يعلم بالملايين من الشبان من أمثال سالي ممن سقط في التحرير.. أو ممن مات عطشاً وجوعاً تحت خط الفقر في كافة أنحاء مصر , فيما ثروات باطن الأرض كانت تقدم لاسرائيل بأبخس الأثمان.. وآلاف أخرون ممن لا تستطيع “عروبة” الحكومة السابقة الاعتراف بدمائهم في رقبتها , هم اللذين أتى عليهم الجحيم الصهيوني بعد إغلاق معبر رفح بإشارة من يدهم.. وفيما تصدر أجود خيرات مصر إلى كافة دول العالم _وعلى رأسهم اسرائيل_ أكان صعباً على سيادة الرئيس المفدى تقيم أي معونة دوائية أو غذائية لغزة خلال فترة الحرب الأكثر وحشية في التاريخ أو بعدها…!
وبعد أن أشبع التحرير بدماء أبناءه … أروع أبناء القاهرة من جامعيين ومثقفين , ظهر أخيراً مبارك في ذاك اليوم في حضرة العدالة على سريره المتنقل.. ولا أدري أتراه كان يحكم مصر طوال تلك الفترة وهو نزق على سريره ذاك ؟ أو لولا ثورة التحرير أكان سيستمر في الحكم وهو في ذاك المظهر المزري إلى أن يوافي المنية مثلاً؟ أم أن وضعه الحالي هو أحد مضاعفات سقوط الحكم؟
وبكل جرأة .. وفي مواجهة ذاك الكم من التهم الموجهة إليه , فإن مبارك ببساطة ينكرها جميعها..! ينكرهم جميعاً ,أولئك الأطفال اللذين قتلهم , أو غيرها الجرائم النكراء الأخرى التي أقدم عليها. وعلى ذلك فإن أي دعوة للرحمة , أو أي ما قد يحول دون العدالة الكاملة والثأر الشريف لفقر مصر, لجوع مصر , للقهر الذي كبر عليه أبناء مصر, أو أي محاولة لاستثارة الشفقة , والتغاضي عن” أرواح “المئات من أجل أن تبقى “جثة” سيادة الرئيس موضع تعاطف, فذاك سيكون عاراً , وبدايةً مؤسفة لمستقبل أراده الشهداء نقياً عادلاً… وتبديد لشهور من الثورة التي أرادها الجميع تطهيراً للبلاد من قذارة وزيف الحكام اللذين أتت السلطة والقوة على انسانيتهم.
****

اليوم وقد مرَّ شهور على استشهاد “سالي زهران” لم أقاوم تعليق صورتها على الحائط بجانب صورة “جيفارا”, بل وللحظة لا أكاد أرى فرقاً بين الصورتين , وأفكر: أكانت سالي قد علقت صورة جيفارا على حائط غرفتها_التي أتخيلها اليوم فارغة بشكل سقيم_ وأفكر بعد: لطالما حلمت أن أزور يوماً ضريح جيفارا في هافانا, أو ضريح لوركا أو مخالوفيتش. ومع بعد الحدوث , واحتمال وجودي في مصر خلال شهور , لربما أتمكن من زيارة ضريح “سالي زهران” وإهداء بنفسجة لروحها…